
الجريدة : عبدالناصر الحاج
منذ اندلاع الحرب الدائرة الآن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في السودان، والتي تتمركز بشكل أعنف في العاصمة الخرطوم منذ صبيحة ١٥ أبريل المنصرم، بدأ الرأي العام السوداني وكأنه في حالة انقسام عنيف بين تأييد الجيش في معركته ضد قوات الدعم السريع حتى القضاء عليها كلياً، وبين رأي غالب من قبل قطاعات واسعة أوساط المثقفين والمهنيين وواجهات المجتمع المدني وعدد من القوى السياسية والشبابية والنقابية، تنادي بضرورة إيقاف الحرب فوراً وإفساح المجال واسعاً لأية حلول سلمية عبر الحوار بين الطرفين لحل الخلافات بينهما. إلا أن استمرار الحرب رغم كل هذه النداءات ورغم كل الهُدن المعلنة من قبل الطرفين، أدت إلى تغيرات كبيرة في ملامح الخرطوم العاصمة خلال هذه الأربع أسابيع من عمر الاقتتال المسلح، وبين عشية وضحاها تحولت شوارع الخرطوم الرئسية واحيائها المكتظة بالسكان المدنيين إلى ميدان لمعركة ضارية تستعمل فيها جميع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، ولا يغيب عن سمائها أزيز الطائرات الحربية، ولا يصفو أثيرها من دوي الدانات ومضادات الطيران. وفي غضون ذلك، تعطلت دواوين الحكومة وأغلقت مؤسسات العمل العامة والخاصة أبوابها، وأصبح مواطنو الخرطوم يتقيدون بحركة محدودة وحذرة بداخل احيائهم. وعلى الرغم من كل هذه الظروف البالغة التعقيد، ظلت عدسات الناشطين والمتطوعين واسهامات الصحفيين بجهود ذاتية، ترفد الوسائط الإعلامية المتعددة و منصات التواصل الاجتماعي بأخبار الأوضاع في الخرطوم وبقية المدن، للدرجة التي أصبحت فيها منصات التواصل الاجتماعي تمثل سجلاً ضخماً يوثق لهذا المنعطف الخطير في تاريخ الدولة السودانية. إلا أنه ووفقاً لآراء متعددة لمراقبين ومحللين، يعاني السودانيين بصورة كبيرة من الحصول على المعلومات الحقيقية والموثوقة في ظل التضارب الكبير بين إعلام الجيش والدعم السريع، فضلا عن ظهور كثير من المنصات الإعلامية المنحازة في تغطيتها الإخبارية؛ سواء للجيش أو الدعم السريع. وتوثيقاً لرياح المتغيرات الكبرى التي عصفت بالصورة النمطية القديمة للحياة في العاصمة الخرطوم بسبب الحرب التي تقترب من إكمال شهرها الأول، تورد (الجريدة) عبر هذه المساحة، تقريريا توثيقيا لحجم الأضرار التي لحقت بكثير من المقار والأسواق والأمكنة التي ظلت تشكل المخلية السودانية لأهم ملامح الخرطوم.
حيث أفادت تقارير رسمية في الأسبوع الأول من الحرب بنشوب حريق كبير في مبني القوات البرية في قلب الخرطوم، حيث تدور المعارك حول القيادة العامة للقوات المسلحة بشكل متكرر. وتعتبر مباني القيادة العامة بأبراجها المختلفة إحدى أهم معالم الخرطوم خلال حقبة العشرون عام الماضية، فضلا عن أنها المكان الذي قصده ثوار ديسمبر في السادس من أبريل ٢٠١٩، وهو ذات المكان الذي تم فيه إعلان سقوط البشير رسمياً، غير أن محيط القيادة العامة اتخذ رمزية أخرى عند السودانيين بعد مجزرة اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩. كذلك وفي اليوم التالي للحرب، احترق المبنى التابع لقوات الدعم السريع في الخرطوم وهو أحد الأبراج الشاهقة التي تتوسط قلب الخرطوم.
وبعد مرور اسابيع على الحرب، تمددت أيضا ألسنة اللهب والحريق بفعل الحروب والتفلتات الأمنية، لتقتضي على سوق عفراء مول المجاور لفندق السلام روتانا الشهير، وهو أحد أشهر مراكز التسوق في الخرطوم قبالة شارع مطار الخرطوم الدولي، ولقد ظل عفراء مول لسنوات طويلة أحد أهم المحلات التجارية التي يقصدها الاجانب والسواح. وكذلك وبحسب تقارير أوردتها قناة العربية، أظهرت صور لشركة ماكسار Maxar الأميركية للتصوير بالأقمار الصناعية، آثار الدمار والحرائق التي لحقت بمطار الخرطوم، ومجموعة من المباني والجسور في العاصمة السودانية في ١٧ أبريل المنصرم. وأظهرت صور الأقمار الصناعية حجم الدمار الذي لحق بالمبنى الرئيسي للمطار والجسور المؤدية إليه، فضلا عن الحريق الذي نشب في مستودعات الوقود داخل المطار. وبالطبع يعتبر مطار الخرطوم الدولي الكائن في وسط العاصمة الخرطوم، هو أحد الملامح المميزة للعاصمة الخرطوم والتي يأتلفها كل الزائرين للسودان وتقبع في ذاكرتهم. وكذلك لم تنجو من الدمار الذي ألحقته الحرب الدائرة الآن ، عدد من الأسواق الشهيرة التي تمددت سمعتها لخارج حدود الوطن، مثل سوق بحري القديم والذي يعتبر مركزاً للحركة العامة من مدينة بحري إلى ضواحيها والى الخرطوم و أمدرمان ، وكذلك سوق سعد قشرة التاريخي والذي انتشرت سمعته التجارية بين السودانيين حتى أصبح أحد أهم ملامح مدينة بحري.
ولم ينجو أيضا السوق العربي في وسط الخرطوم من الخراب والدمار بفعل المعارك الحربية التي دارت بين شوارعه وأزقته. وللسوق العربي دلالة رمزية كبيرة يعرفها أهل السودان ، حيث ارتبط السوق العربي بتعريف الخرطوم نفسها وماهية النشاط التجاري فيها، حيث تتعدد المحلات التجارية الخاصة بأسواق الملابس والأدوات الكهربائية والمنزلية والمغالق والمطابع والكفتريات ومواقف المواصلات العامة.
أما شارع الحوادث الشهير في الخرطوم ، فقد تأثر هو الآخر بفعل الاشتباكات العسكرية، وتم إفراغه من جميع المستشفيات والمعامل الطبية، وهو أحد أهم الشوارع في الخرطوم لتقديم الخدمات الطبية، حيث تقبع فيه مستشفي الخرطوم العتيق ومستشفي الشعب والاذن والحنجرة ومستشفي الفيصل وفضيل ومعامل استاك وكلية الطب وعدد من المعامل الأخرى، ويرتبط شارع الحوادث بشارع السيد عبدالرحمن والقصر والمك نمر، حيث مستشفى الزيتونة والأسنان وابن عوف للأطفال.
وبالامس تداول نشطاء حريقا ودماراً لحق بالقصر الجمهوري القديم ؛ والذي يعتبر أحد أهم المعالم التاريخية للدولة السودانية ويمثل رمز سيادتها الوطنية، وهو ذات المكان الذي حفل برفع علم استقلال الدولة السودانية من نير الاستعمار البريطاني في يناير ١٩٥٦. وعلى الرغم من أن بيان الدعم السريع أكد فيه تدمير القصر الجمهوري القديم بقصف الطيران الحربي للجيش السوداني، إلا أنه أخبار أخرى تم تداولها اليوم تنفي ذلك.