السياسية

طموحات السودان الخارجية تخفق في حل أزماته الداخلية

صحيفة العرب

بعض الدول ترى أن التغلب على المشكلات الداخلية يساهم في توطيد العلاقات الخارجية، وبعضها يرى أن تطوير العلاقات الخارجية يقود إلى تخفيف الأزمات الداخلية، وهناك فئة ثالثة تسعى للمضي على خطين متوازيين لتكون الحصيلة مفيدة على الجانبين.

اختيار أي من الخيارات الثلاثة يتوقف على نوع الأزمات في كل دولة، والإمكانيات المتوفرة، وطبيعة النظام الحاكم وحجم التحديات ونوعيتها، والرؤية الصائبة لمكانة البلد، والطموحات التي تتبناها القيادة السياسية، وما إذا كانت تريد دورا هامشيا أم رئيسيا في المحيط الجغرافي.

جميع النظريات المعروفة في العلوم السياسية لم تتوافق على منهج معين يمكن إتباعه، فكل منهج له مزاياه وعيوبه وكل بيئة لها ما يناسبها، وإن كان البعض من المفكرين يميلون ناحية التطوير المزدوج، باعتباره يمثل نموذجا يملك مواءمات تساعد على تجاوز المشكلات خلال فترة وجيزة، لكن العبرة بمدى القدرة على تحقيق توازن في المستويين، الداخلي والخارجي.

السودان من الدول التي اختارت النموذج الثاني، واعتقدت أنه سيكون مجديا في هذه المرحلة، لكنه لم يحقق التقدم الملحوظ، لأنه يتبنى سياسة متخبطة، كما أن ميراثه من الأزمات كبير ومتشعب ويمس مجالات عديدة نخرت في مصداقية الدولة، ويحتاج البلد إلى رؤية أشد وضوحا، كي يتمكن من جني ثمار ملموسة، ويشعر المواطنون أن ثمة شيئا حقيقيا يجري العمل عليه من أجل مصالحه.

الخبرات التي حصدها النظام السوداني الحالي على مدار ثلاثة عقود في السلطة لم تشفع له تحديد أولوياته بدقة، لأن تثبيت أركان الحكم لا يزال يتقدم على تثبيت أركان الدولة، وتخفيف الضغوط الخارجية يتقدم على تصفية المشكلات الداخلية، ورفع الأسعار وتخفيف الدعم وفرض الضرائب والتضييق على الحريات، لها أسبقية على تشييد مشروعات تنموية واعدة.

السودان لم يقم حتى الآن بالتوازن المطلوب بين أزماته الداخلية وطموحاته الخارجية، وصبت غالبية التقديرات في أن التركيز على الأخيرة سوف يجلب تلقائيا حلولا للأولى

الخرطوم بذلت خلال السنوات الماضية جهدا لتطبيع العلاقات مع الإقليم وخارجه، واستنزفت مؤخرا جزءا كبيرا من طاقتها في تخفيف التوترات بسبب تدخلات سابقة في شؤون بعض الدول، واتساع فضاء الحروب المحلية إلى النطاق الإقليمي بكل ما تنطوي عليه من تشابكات فرضت واقعا مؤلما.

لم يتمكن النظام السوداني من بناء علاقات قوية وثابتة، ويسعى الآن إلى إذابة الجليد الذي تراكم بفعل تصرفات خاطئة أقدم عليها، أساءت إلى صورته في دوائر كثيرة، وكانت حصيلتها عدم القدرة على إحراز تقدم على مستويات عديدة، وركّزت تحركات الخرطوم على تصويب بعض السياسات التي أضرت بمصالحها النهائية.

تسكين المشكلات التي جلبت للنظام الحاكم متاعب سياسية كبيرة لن يصبح حلا مناسبا من دون امتلاك قدرة على نسج شبكة متينة من العلاقات على أسس سليمة، تكون لها مردودات إيجابية يشعر بها الناس بحسبانها وسيلة لتخفيف الأعباء وليس قفزا لتحقيق مكاسب آنية.

الأحلام العريضة التي يمتلكها الرئيس السوداني عمر حسن البشير لنفسه وبلده متعاظمة، إذا قُورنت بالإمكانيات المحدودة والتصورات الضيقة، فلكي تكون الدولة قوية من المهم أن تضع حلولا مقنعة لأزماتها الداخلية، وتعيد النظر في التوجهات الخارجية، وتتجنب تكرار الأخطاء الماضية التي جعلت دولة مثل السودان على وشك أن يوضع ضمن لائحة الدول الفاشلة.

الخطوات التي تقوم بها الخرطوم على الصعيد الخارجي، أخفقت في حل الأزمات الداخلية، ولم تصطحب معها وصفة مقنعة للعلاج، ما زاد من نقمة المواطنين وأفقد قطاعا منهم الثقة في المستقبل، كما أن حل الأزمة الأمنية مع الفصائل المسلحة عبر توافقات إقليمية لم يتقدم بصورة مرضية، وكل المحاولات التي جرت للتهدئة لم ترافقها تحركات لإيجاد حلول ناجعة.

الفصائل المسلحة تقاتل على جبهات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ويمكن أن تشتعل جبهة شرق السودان في أي لحظة، ما يضع ثقلا ماديا ومعنويا على صدر النظام الحاكم، ويقيد تصوراته نحو حل العديد من الأزمات.

عندما تدخلت الخرطوم لإيجاد تسوية سياسية للحرب الأهلية في دولة جنوب السودان، ونجحت وساطتها في التوقيع على اتفاقية تاريخية بين الرئيس سيلفا كير ونائبه الأول السابق رياك مشار بالخرطوم في 5 أغسطس الماضي، كان السؤال الأول الذي تبادر إلى الذهن؛ متى يستطيع السودان حل أزماته مع الحركات المسلحة التي تنتشر في أماكن متفرقة داخل البلاد؟

لم يجد السؤال إجابة شافية وربما لم يطرح أصلا بجدية على القيادة الحاكمة، التي تدخلت لحل الأزمة المستعصية بجنوب السودان، لمحاولة تغيير بعض القناعات الخارجية، وحصول الخرطوم على مكاسب تشي بأنها أحد محاور الأمن والاستقرار في المنطقة، وتجاوزت مناوشاتها ومناكفاتها وعلى استعداد للتجاوب مع أي خطط للتعاون والتنسيق في الملفات الإقليمية الحيوية.

الخبرات التي حصدها النظام السوداني الحالي على مدار ثلاثة عقود في السلطة لم تشفع له تحديد أولوياته بدقة، لأن تثبيت أركان الحكم لا يزال يتقدم على تثبيت أركان الدولة

دخول السودان على خط هذه الأزمة، اعتبره كثيرون مثيرا للانتباه، لكن التداعيات اللاحقة أكدت أن لهذا الحضور أبعاد داخلية أيضا. فهو يسكّن جبهة الجنوب ويحد من الحرب بالوكالة، ويوحي أن الخرطوم رفعت يديها عن جميع القوى الخارجية التي قيل إنها تتلقى دعما من جانبها، ويفتح الطريق أمام تسهيل استخراج النفط من الآبار القريبة من حدود السودان، بعد أن حرمه انفصال الجنوب من نحو 75 بالمئة من الدخل القومي.

التدخل كان يرمي إلى توصيل رسائل تؤكد أن توجهات الخرطوم تتغير، وحل مشكلة الجنوب يمكن أن يساهم في حل أزمات السودان، من خلال استئناف ضخ نفط الجنوب عبر ميناء بورسودان، وما يجلبه من رسوم مادية وفتح مجال الاستثمار بما يساهم في تخفيف جزء من الأزمة الاقتصادية.

التصورات الإيجابية التي يتبناها السودان على الصعيد الخارجي، لعبت دورا مهما في عدم ممارسة ضغوط جديدة عليه من قبل بعض القوى، وفتحت له نوافذ مع دول في الإقليم، لكن هناك حاجة لحسم بعض الأمور الشائكة، ليتمكن من الحصول على أثمان مضاعفة، أهمها توطيد العلاقات على أساس المصالح المتبادلة، وإزالة الهواجس التي تنتاب البعض من تقلبات الخرطوم.

علاوة على الكف تماما عن دعم التصورات الأيديولوجية التي تثير حساسيات لدى بعض القوى الراغبة في تطوير العلاقات مع الخرطوم، وتطعيم الخطوات السياسية التي اتخذت خلال الأشهر الماضية بما يمكنها من إعادة الثقة في التحركات اللاحقة، والتي ترنو إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية.

المشكلة أن السودان لم يقم حتى الآن بالتوازن المطلوب بين أزماته الداخلية وطموحاته الخارجية، وصبت غالبية التقديرات في أن التركيز على الأخيرة سوف يجلب تلقائيا حلولا للأولى، وتجاهل أن تجذر التحديات ووصولها إلى مفاصل وهياكل رئيسية في الدولة يحد من قدرة أي إنجازات خارجية على تخفيفها.

إذا كان النظام السوداني يرى أن إعادة صياغة العلاقات الخارجية يقود إلى جلب مساعدات اقتصادية، فإن عليه تهيئة البيئة التي تتواءم مع هذه المسألة، والقيام بخطوات جريئة تعيد الثقة في التصورات الشاملة التي تجعله جزءا من منظومة التنمية الصاعدة في المنطقة.

اقرا ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى