مقالات وآراء

الشفيع خضر سعيد يكتب الجيش والسياسة في السودان

نواصل اليوم، وفق ما التزمنا به في مقالنا السابق، مناقشة علاقة الجيش السوداني بالسياسة، علما بأننا ناقشنا بعض جوانب هذه العلاقة في مقالات سابقة. وكنا في مقالنا السابق قد أشرنا إلى أنه على الرغم من أن كل الدساتير التي مرت على السودان منذ فجر استقلاله، وكذلك المواثيق ووثائق الاتفاقات السياسية المختلفة، تنص على قومية وحيدة الجيش السوداني، إلا أن ذلك لم يمنع المؤسسة العسكرية السودانية من التورط في انقلابات عسكرية ذات طابع حزبي، تقليدي أو يساري أو إسلامي، ولم يمنعها من التورط في قمع التظاهرات والاحتجاجات والاضطرابات والاعتصامات الداخلية دفاعا عن سلطة هذه القوى السياسية أو تلك، أو التورط في الحروب الأهلية، الوجه آخر للصراع السياسي، والتي تضع الجنود من أبناء المناطق المشتعلة في حالة تمزق داخلي لا تطاق، عندما يُطلب منهم مقاتلة أبناء جلدتهم المتمردين والثائرين لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية. ولكن، كل هذا التورط، وهو دائما بدفع من القوى السياسية، لم يسلب الجيش السوداني وطنيته وديمومة صحو ضميره، فكانت انفعالاته الإيجابية عندما حسم الأمر بإنحيازه للجماهير المنتفضة في أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985 وأبريل 2019.
ومع الإقرار والاعتراف بالدور الكبير الذي لعبه هذا الانحياز في تحقيق الانتصارات الأولية لهذه الانتفاضات، إلا أن العنصر الحاسم في كل تلك الانتصارات، والدافع الأساس وراء تحرك الجيش وإنحيازه لتلك الانتفاضات، هو حراك الشارع واضراباته واعتصاماته وصموده أمام القمع والتنكيل.
اعتقد، المقولة الشائعة بأن الجيش السوداني لا علاقة له بالسياسة، غير دقيقة. فهي لا تعكس طبيعة
التركيبة الاجتماعية الاقتصادية للواقع السوداني، والذي أكسب هذه العلاقة طابعا معقدا. وفي نفس الوقت الذي يحدثنا فيه معظم السياسيين عن ضرورة إبعاد القوات النظامية عن السياسة، تجدهم إما يغازلون هذه القوات، تقية، أو يبنون تنظيماتهم الحزبية سرا داخلها، وكل له فلسفته التبريرية القائمة على قناعته الخاصة بأحقيته هو بمؤسسات الوطن أكثر من الآخر.
والتاريخ السياسي لأنظمة الحكم المتعاقبة في السودان، وفي أغلبية بلدان المنطقة، يؤكد العلاقة الوثيقة بين هذه الأنظمة وجيوش بلدانها. صحيح، الجيش السوداني بدأ مشواره عقب الاستقلال كبوتقة قومية تنصهر فيها كل مكونات السودان الاثنية والقبلية، وكانت قيادة الجيش تطلب دوريا من زعماء القبائل تجنيد عدد من شباب القبيلة للجندية، مراعية لتوازن دقيق بين أعداد المجندين من القبائل المختلفة. وكانت فلسفة التأهيل والتدريب في الجيش تقوم على فكرة انصهار الجميع في هذا الوعاء القومي. ومع ذلك، ظل الجيش السوداني، ومنذ سنوات الاستقلال الأولى وحتى اللحظة، فاعلا سياسيا يمارس السياسة ومنغمسا في كل تفاصيلها.

ففي 17 نوفمبر 1958، نفذت قيادة الجيش انقلابا عسكريا وحكمت البلاد ست سنوات باسم الجيش السوداني، وهذه سياسة.

وإبان ثورة أكتوبر 1964 انحاز الجيش لصالح استرداد الديمقراطية، وهذا موقف سياسي. وفي 25 مايو 1969 استولى الجيش على السلطة، ثم عاد بعد 16 عاما من الديكتاتورية، لينحاز إلى الشعب المنتفض في أبريل 1985، وبقي في موقع رأس الدولة لمدة عام، وهذه سياسة. وفي 30 يونيو 1989، وبتخطيط وتنفيذ حزب الجبهة الإسلامية القومية وكوادرها في الجيش، نفذ الحزب انقلابا عسكريا واستولى على الحكم باسم الجيش، إلى أن أطاحت به ثورة ديسمبر 2018، وبمساعدة الجيش أيضا، وهذا كله سياسة في سياسة!
قلنا إن طبيعة التركيبة الاجتماعية الاقتصادية للواقع السوداني، اكسبت علاقة الجيش بالسياسة طابعا معقدا، وجعلت منها أحد أركان التناقضات الملازمة للممارسة السياسية السودانية منذ الاستقلال والتي تجسدت في عدة أشكال أبرزها ما عرف في الأدب السياسي السوداني بالحلقة الشريرة، أو تعاقب الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية.
ومن الواضح، وكما تقول تجربتنا منذ الاستقلال، إن هذه التناقضات تتقاطع هنا وهناك مع دور كل مكون من المكونات المجتمع السوداني في مسار التطور السياسي والاجتماعي للبلاد. وهذه المكونات تشمل المؤسسة الحزبية والمؤسسة العسكرية ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات المجتمع الأهلي. وهذا الأمر، هو ما دفع قادة الأحزاب السودانية الذين جمعهم الاعتقال في سجن كوبر عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 30 بونيو ، إلى التوافق، بحثا عن انتهاج طريق جديد يصحح سلبيات الماضي ويمنع إعادة إنتاج الأزمة، على تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي وفق صيغة تقوم على ثلاثة أضلع متساوية هي المؤسسة الحزبية والمؤسسة النقابية والمؤسسة العسكرية.
أعتقد أن مطلب إصلاح القطاع العسكري في السودان جاء نتاجا لعدة أسباب أهمها ما طال هذا القطاع من تخريب وتشويه على أيدي نظام الإنقاذ البائد الذي عمل حثيثا على تصفية أي محتوى قومي للجيش السوداني، وطمس تراثه وتقاليده العريقة القائمة على تأكيد وطنية وقومية الضباط والجنود السودانيين، والشروع في تحويل هذه المؤسسة القومية، وكذلك الشرطة وأجهزة الأمن والمخابرات وأجهزة الخدمة المدنية، إلى مؤسسات تابعة للحزب الحاكم، ظنا منه أن ذلك يُديم سلطته. ولكن إصلاح القطاع العسكري لا يمكن أن يُختزل في القرارات الإدارية البيروقراطية وحدها، والتي تقوم على الفصل والتعيين، مع أهمية هذه القرارات في تطهير القطاع من الفاسدين وغير المؤهلين والدافعين بالأجندة الحزبية في مؤسساته.

فسؤال إصلاح القطاع العسكري، وكذلك إصلاح مؤسسات الخدمة المدنية، تكمن إجابته، حسب اعتقادي، في بناء دولة الوطن، لا دولة هذا الحزب أو ذاك، دولة القانون والمؤسسات والحكم الراشد، وعدم خضوع المؤسسات العسكرية والمدنية لإرادة الحزب الحاكم، أيا كان هذا الحزب، دولة التحول الديمقراطي الكامل، وهي الدولة التي تُبنى على أساس مشروع قومي مجمع عليه، يشارك في صياغته وتنفيذه الجميع، بمن فيهم أفراد القوات النظامية! هذه هي المهمة الرئيسة ضمن مهام الفترة الانتقالية الراهنة، ولكن تلكؤ القوى السياسية، ثم انقلاب 25 أكتوبر 2021، كانا بالمرصاد.

اقرا ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى