
أخي حفظه الله ..
كان يبذل الوعود للوالدة رحمة الله عليها.. بأن كل طلباتها ستجاب. بعد حين من الدهر لم يسمه ويطالبها بالصبر معه حتى يصل الى بر الأمان في عمله الخاص الجديد.. ويردد جملة محددة في كل مرة (اصبري يا حاجة خليني أطلع من عنق الزجاجة).. طال الأمد.. ولاحظت الحاجة عليه بوادر انفراج في حياته.. لكنه تراخى في تنفيذ الوعود.. انتظرته ذات يوم عندما أتى لزيارتها.. فبادرته قائلة: (عبد الرؤوف.. أخبار القزازة حقتك شنو؟ شايفاك طلعت منها وخليتنا نحن جوة). الان الازمة الاقتصادية التي طالت مدتها.. وفاتت (الكبار الأزم والقدرها).. كل ما أتى ذكرها.. طالبنا ولاة الأمر بالصبر (حتى نخرج من عنق الزجاجة).. وقد طال عنق الزجاجة حتى ظننا أنه عنق زرافة.. ولم يتغير شيء في الأمر، لكن أغلب الظن وبحكم الدلائل والبراهين المتاحة .. فإن الجماعة قد خرجوا منها وتركونا قابعين في أسفلها نندب حظنا وآمالنا.. فإذا دار محور سؤالكم عنا.. فنحن في أفضل حال.. لقد تأقلمنا على قاع الزجاجة.. وتعايشنا مع الواقع ورتبنا أمرنا على ذلك.. حتى صارت الحقوق الأساسية متطلبات رفاهية.. ومثار سخرية إن طالبت بها.. على سبيل المثال.. إن قطعت الكهرباء.. تجدنا نفتح النافذة لنعرف هل القطع عام؟ وبمجرد التأكد تجدنا نتنهد الصعداء ونقول: (الحمد لله.. القطع عام).. تقطع المياه (نسعى البراميل).. يحدث شح في الدقيق.. نبرمج حياتنا على صف العيش.. الخ.. الخ.. صديقتي ذهبت مع أسرتها للمسرح القومي (الواحد دا).. طلبوا مقاعد أمامية، فقيل لهم إنها جميعاً مشغولة.. فدفعوا ثمن تذاكر خلفية.. وعندما أرادوا الدخول.. تفاجأوا أنه ليست هناك أي مقاعد في الخلف.. (مسرح شماعة).. غضب زوجها من الأمر وأراد الاحتجاج.. لكن أحد أولادهم قال لهم مندهشاً من غضبهم: (أصلاً ما في مقاعد ورا.. نحن بنجي نحضر الحفلة ولا المسرحية وقافي).. فتركا كل شيء وصارا يحاولان إصلاح فكرة المسرح (الشماعة) في ذهن ابنهما.. عندما حكت لي قصتهما ضحكت وقلت لنفسي الآن وجدت تعريفاً لجيلنا.. نحن جيل البرزخ الذي شهد انهيار كل شيء.. هناك جيل مؤتمر الخريجين.. وجيل الاستقلال.. وناس ثورة أكتوبر.. نحن منو؟؟ نحن الذين طال مكوثنا في عنق الزجاجة حتى نسينا ما الذي يجري خارجها.. وخلف من بعدنا خلف. لم يألفوا غير قاع الزجاجة.. وقد كنت أتفكر كثيراً في حال الشباب.. لماذا تجدهم (كاسرين الحنك؟).. لماذا يفكرون فقط في كسر الزجاجة والسفر خارجا؟ حتى الذي أقعدتهم ظروفهم عن الرحيل تجدهم لا يريدون معرفة الكثير عن بلادهم.. فهم في انتظار أي بارقة (للمخارجة).. فقد نشأوا دون أن يعرفوا أن لهم حقوقاً في هذه الأرض.. لذلك تجدهم ببساطة لا يملكون أي إحساس بالانتماء لها.. فهي مجرد قاع زجاجة (خالية حتى من مقاعد المسرح).. شاءت أقدارهم أن يولدوا بها فقط لا غير.. لذلك أي تغيير في (قاع الزجاجة) لن يثير اهتمامهم ولن يلفت انتباههم.. فمهما حدث.. سيظل القاع هو القاع.. والحال يا هو نفس الحال.. وستجدهم سيرددون: (دنيا تتغير.. ودنيا أدمنت عشق الثوابت).