
عثمان ميرغني يكتب أَيْنَ ذَهَبَت المَائة مِليَار دُولار؟
كَتبت هنا أمس عن (مائة مليار دولار) – افتراضيّة – هدية من المُجتمع الدولي للسودان، منحة تُستثمر خلال عامٍ واحدٍ للنُّهوض ببلادِ هي مخزن البشرية في الغذاء والكساء.. وطلبت من القارئ الكريم أن يُفكِّر معي كيف يُمكن استثمار هذه المائة مليار دولار.
وردتني اتصالات كثيفة، أغلبها توجَّع على المائة مليار دولار التي ستطير في أيامٍ قلائلٍ وتتبعثر بين بُنُوكٍ خارجيّةٍ، بعد أن تَلتهمها الأفواه المُتخمة الجَائعة.. هواجس مَشروعة تَكشف مُنحدر الثقة الذي وَصَلَهُ ظَنّ المُواطن بحكومته.. ولا أعرف كيف تحكم الحكومة شَعباً يُبادلها لَعنات التّخوين!
نعود مَرّةً أُخرى لأصل المَوضوع، كيف تُستثمر مائة مليار دولار وفي عامٍ واحدٍ؟
الإجابات تَكشف الخلل الخطير في كيان الدولة السُّودانية، فهذا البلد الأمين لا يُعاني من فاقةٍ في موارده، بل ضُمُوراً في عقلية إدارة هذه الموارد.
وقد كان؛ عندما أنعم الله علينا بثروة النفط قفزت أسعاره عالمياً إلى ذُراها، وتدفّقت أموالٌ طائلةٌ إلى خزائن السُّودان، ثُمّ رأيتم بأم أعينكم كيف تبدّدت هذه الثروة وكأنّها ما كانت، بل أورثتنا فقراً وحرماناً أكثر مما كان قبلها.. حتى قليل الطُرق والجسور ومشروعات التنمية التي أُنجزت بدأت تنهار الواحد تلو الآخر لرداءة الصنع وفساد الصانع.
العِلّة – إذاً – ليست في الحُصُول على الثروة مهما عظمت، ففي بلادنا نملك أكثر من منحة المائة مليار دولار هذه، بل أنّ ثرواتنا طَبيعيّة مُتجَدِّدة وليست كثروة النفط ناضبة مُتبدِّدة.. العِلّة في العُقُول التي تُدير هذه الثروة.
الآن أرجوك تَمَعّن في إجابتي على السُّؤال: كيف نستثمر المائة مليار دولار في عامٍ واحدٍ؟
الحَقيقة المُرّة، لو مَنَحَنَا العَالم ألف مليار دولار، لما غيّرت من حَال السودان شيئاً إن لم تتوفّر لها الإدارة السليمة، فما هي أُسس هذه الإدارة؟
أول شَرط وُجوب للإدارة السّليمة أن تعلو (المُؤسّسية) فوق هَامَة (الفردية).. والآن راجع إجاباتك، مَهمَا كانت فأنت بمُحاولتك رَسم خُطة لاستثمار المائة مليار وقعت في فخ القرار (الفَردي) الذي يَتجاهل (المُؤسّسات).. ومها كان الفرد عبقرياً، فلن ينجز شيئاً إن لم تتوفّر البنية المُؤسّسية لصُنع القرار.
مثلاً أحد المُتّصلين قَالَ إنّه سيستثمر كل المائة مليار في الزراعة والتعليم والصحة.. نَعم هذا عُنوانٌ بَديعٌ لكن تحته فَراغٌ عَريضٌ يجعله مُجَرّد شِعارٍ عَاطلٍ أو لافتة مقعدة مشلولة.. مَن سَيزرع؟ ومَن سَيصلح التعليم؟ ومَن سَيصلح الصحة؟ إن كانت المُؤسّسات على وضعها المُتردي الحالي.؟
الحَل الصّحيح يبدأ بترسيم الحُدُود الفَاصلة التي تُعظِّم المُؤسّسات في مُقابل الأفراد.. فدولتنا بكل أسف تُدار بـ (فَردانية) حَقيقيّة قَاهرة، تجعل المُؤسّسات مُجرّد صُور ديكتاتورية.
فمصير أيّة ثروة مهما عَظُمت الضياع..
السودان ليس في حاجةٍ لمائة مليار دولار منحة من المُجتمع الدولي.. بل في حاجةٍ لمُؤسّسات حَقيقيّة تُدير البلاد..
هي التي ستنتج أضعاف المائة مليار دولار..
التيار