
محمد عثمان يكتب .. المكتب أم المخدع؟ الصراع السياسي بأدوات غير سياسية ١ـ٢
الاحداث نيوز / محمد عثمان
لماذا لا تمنح جائزة نوبل لنشطاء السلام ومناهضي الحروب، والمنظمات المطالبة بوقف الإنتشار النووي، ومنع تجارة السلاح والتي تواجه جميعها تعتيماً هائلاً على أنشطتها من قبل الإعلام الغربي
لن نتعجل في الحكم على جائزة نوبل للسلام بأنها تافهة ومغرضة وغير معنية بالسلام أصلاً، لكننا نتساءل: بم خدمت شيرين عبادي، وملالا يوسف، وتوكل كرمان، وأونغ سان سوسي، وإيلين جونسون سيرليف بل باراك أوباما نفسه قضية السلام حول العالم؟
في الصحف الغربية نقرأ يومياً ونرى صوراً فاضحة يلامس فيها الرجال النساء بشكل حميم فإذا توافق الطرفان في اللحظة ذاتها ظهر الأمر كسلوك متحضر وإذا اختلفا إدعى طرف بأنه كان ضحية سلوك مسيء جنسياً
في أمريكا حيث ظلت عقيدة السلوك الجنسي تصاغ منذ سنوات، تجد وسائل الإعلام ضالتها في نبش غرف نوم المرشحين للوظائف العامة للبحث في سلوكهم الجنسي ليتم اختيارهم لوظائف لا علاقة لها البتة بممارسة الجنس في المستقبل
قبل عقود قليلة كان الإتهام بالشيوعية أو المثلية الجنسية أفدح من الإتهام بالتحرش الجنسي أو إقامة علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج، وبعد سنوات قليلة فقط صار التباهي بالمثلية الجنسية او التسامح معها وإحترامها عنواناً للسلوك المتحضر!
حياتنا العربية ملهاة مثيرة للشفقة ففي البلدان التي استوردت قوانين التحرش والسلوك الجنسي يكفي أن يقول المرء كلمة غزل واحدة ليجد نفسه تحت طائلة القانون في حين يستطيع أي شرطي التحقق من عذرية فتاة دون اتهامه بأي مخالفة
في الخامس من هذا الشهر، وقفت السيدة بيريت ريس أندرسن رئيسة اللجنة النرويجية لجائزة نوبل لتعلن أن لجنتها (الموقرة) قد قررت منح جائزة نوبل للسلام لهذا العام للدكتور دينيس مكويجي والناشطة ناديا مراد لجهودهما من أجل إنهاء استخدام العنف الجنسي في الحروب والنزاعات المسلحة! يتلاءم هذا الإعلان تماماً مع النشاط الفكري والثقافي والإعلامي المستعر في الغرب منذ سنوات لصناعة عقيدة جديدة يتم تطويعها واستخدامها ـ بشكل ناعم وحاسم وأخلاقي ـ لإقصاء المنافسين، وابعاد الخصوم، وتلويث سمعة الأعداء والأعداء المحتملين، في ظل ذوبان الفروقات الطبقية، وتساوي الكتوف العلمي، وتوازي القدرات الأكاديمية، وتنوع الخبرات ووفرتها دون كثير اعتبار للسن أو الطبقة أو العرق أو المكانة الإقتصادية.
قبل سنوات طويلة كان سيف الهرطقة مسلطاً لحسم أي تنافس على المال أو السلطة وكانت المؤسسة الدينية قادرة وفق تحالفات دقيقة الصنع على تمرير الأحكام بإقصاء الخصوم الى الأبد والتي تصدر أساساً من صناع القرار في السلطة الزمنية ثم تحال سراً للسلطة الدينية لتضع سيفها المبارك عليها قبل أن يصبح التنفيذ واجباً على الحاكم لا مناص منه. كانت جريمة الهرطقة في أوروبا وغيرها تحاكم بأكثر الوسائل بشاعة مثل الحرق في الغالب مما يكرس خطورة مخالفة التفسير الرسمي للدين ويرعب من مجرد التفكير فيه. عبرت البشرية قروناً وعقوداً أخرى من السنوات لم يعد فيها الحرق عقاباً على الهرطقة عملاً مقبولاً في الغرب المتقدم على الأقل فصنعت الموسسات الرسمية بدائل للهرطقة وجاءت مخالفات مثل الجبن وعدم أداء الخدمة العسكرية والتهرب الضريبي لتملأ الفراغ!
في العقود الأخيرة خسر العشرات من الساسة الغربيين ونجوم المجتمع والفن والإعلام أماكنهم لصالح آخرين وفقاً لتلك الجرائم البديلة للهرطقة ولعل ما يحضرني بشكل مؤثر قصة كنت قد مررت عليها مرة في إحدى مقالاتي في سياق مختلف وهي قصة النجم الفكاهي الفرنسي ميشيل كولوشي الذي عرف بإسم شهرته كولوش والذي دفع حياته وحياة مدير اعماله ثمناً لطرفة لم يحسنا ضبطها فأفلتت منهما في مسرح الصراع السياسي الفرنسي القاسي!
في ال٣٠ من أكتوبر عام ١٩٨٠م وعقب انتهائه من عرضه المسرحي الكوميدي، عقد كولوش مؤتمراً صحفياً أعلن فيه عزمه على الترشح لرئاسة الجمهورية منافساً للرئيس اليميني فاليري جيسكار ديستان واليساري الإشتراكي فرانسوا ميتران!
بدأت الحكاية كنكتة صغيرة آزرته فيها صحيفو شارلي إيبدو الكاريكاتيرية الشهيرة وأدار حملته التي لم تعمر طويلاً مدير أعماله البارع رينيه غورلان! الشعارات كانت ساخرة للغاية وممازحة ومنها شعاره أن فرنسا في عهده لن تنقسم فقط بين تيارين وإنما ستتمزق من الضحك! كان الأمر يسير بين الناس كطرفة ساخرة حتى استيقظت فرنسا بعد أقل من شهر على خبر مقتل مدير أعماله الشاب غورلان برصاصتين صغيرتين على رقبته من الخلف والعثور على جثمانه مرمياً في إحدى البنايات التي كانت تحت التشييد، في جريمة مرعبة، ثم صدرت بعد أقل من أسبوعين الصحيفة الأسبوعية (لاجورنال دو ديمانش) وهي تحمل الخبر السيء للطبقة السياسية الحاكمة بأن استطلاعاً للرأي أجرته كشف عن إن المرشح الهزلي قادر حتى الآن على الحصول على ١٦٪ من الأصوات الإنتخابية وهو ما يحوله الى رقم حقيقي في السباق الإنتخابي المحتدم. خلال أسابيع بدات الصحف ووسائل الإعلام تحصل بسرعة على معلومات سرية هائلة عن حياته الضخصية وعائلته وأقاربه وحساباته المصرفية ودفعياته للضرائب وعانى ضغوطاً هائلة ليقرر الإنسحاب فجأة من الإنتخابات إثر تلك الضغوط الهائلة! لكن هل غفرت له الطبقة الحاكمة تلك (الهرطقة)؟ في العام ١٩٨٥م قضى الشاب المرح كولوش في حادث سير مأساوي جراء اصطدام دراجته النارية بشاحنة في حادث وجد على الفور من ينسبه الى الأيادي الخفية!
حوادث السير التي تفتك بالخصوم السياسيين حيلة قديمة ليس فيها ابتكار تم تجريبها بكل أسف في كثير من دول العالم ويحضرني من بين ما قرأت عنها قصة مقتل السيد أحمد حسنين باشا، رئيس ديوان الملك فاروق والعشيق والزوج السري لوالدته الملكة نازلي! كان حسنين على علاقة لم يرض عنها الملك بوالدته لكن حسنين كان رجل دولة صاحب حظوة وشكيمة منذ عهد الملك فؤاد (والد فاروق)! حين أزف الأجل، خرج حسنين بسيارته من قصر عابدين في أوائل العام ١٩٤٦م وفي منتصف كبري قصر النيل الشهير جاءت شاحنة تابعة للجيش البريطاني تسير في الإتجاه المعاكس بسرعة كبيرة ويقودها عسكري قيل إنه مخمور لتقضي على حياة السياسي الكبير الذي حظي بجنازة ملكية رسمية ووري جثمانه الثرى في مراسم مهيبة.
السلطة لا تقبل القسمة على إثنين ومن يدخلها فعليه أن يستعين على البقاء فيها بما تيسر من التحالفات والأسلحة القذرة! هذه هي طبيعة السلطة نفسها وليس بالضرورة أن تكون طبيعة المشتغلين فيها.
***
ينبغي ألا نتعجل في الحكم على جائزة نوبل للسلام وأن نشير الى أنها جائزة تافهة ومغرضة تحاول أن تضع الأجندة للعالم لا أن تقول لمن أحسن في صنع السلام، أحسنت! ماذا فعلت منظمة أطباء بلا حدود لصالح تحقيقي السلام في رواندا؟ وبم خدمت شيرين عبادي، وملالا يوسف، وتوكل كرمان، بل بم خدم باراك أوباما نفسه قضية السلام حول العالم؟
إن السؤال الجدير بالإثارة الآن لماذا يفوز بجائزة نوبل للسلام من يطالبون بوقف الإستغلال الجنسي في أوان الحروب ولا يفوز بالجائزة من يطالبون بوقف الحروب أصلاً؟ لماذا لا تمنح جائزة نوبل لنشطاء السلام والمنظمات المطالبة بوقف الإنتشار النووي، والجمعيات المطالبة بمنع الإتجار بالأسلحة، والتي تواجه تعتيماً هائلاً على أنشطتها من قبل الإعلام الغربي الذي يضع الأجندة واحدة فواحدة للإعلام المحلي حول العالم؟
إن قضية الإستغلال الجنسي للنساء في أماكن وأزمنة الحروب، وفي كل زمان ومكان جريمة بشعة وعنصرية ولكن أليس من الأولى مؤازرة من يرومون وقف الحروب نفسها؟
العالم الغربي يتجه منذ سنوات لوضع السلوك الجنسي للساسة كعقيدة جديدة ملزمة يتم تحويل الصراعات السياسية غير المحسومة الى محكمتها، ومع حالة تساوي النقاط المستمرة بين المتنافسين على الحكم حول العالم فإن السلوك الجنسي الممنوع وفق مدونة السلوك الغربي التي تصاغ الآن ستحسم الخلافات! لن تحتاج هزيمة طامح سياسي سوى الى سيدة تزعم هنا أو هناك بأنها تعرضت للمعاملة الجنسية غير اللائقة من ذلك الشخص فيذهب الى النسيان بمحاكمة قضائية أو بمحاكمة إعلامية على النحو الذي استبعد به السياسي الفرنسي والشخصية الدولية المرموقة دومينيك ستراوش كان من السباق الرئاسي للعام ٢٠١٢م.
كانت ثغرة كان التي نفذ من خلالها أعداؤه هي شغفه بالنساء ولكن من من الرؤساء من كان متبتلاُ طاهراً؟ الفرنسيون يقبلون الفرنسيات على الخد، وأحياناً على الفم دون مناسبة وبغرض التحية فقط وربما يقبل الذكور بعضهم البعض على هذا النحو دون مضامين جنسية، وهناك صورة رائجة لسياسي سوداني يتلقى قبلة مفاجئة من السياسي والوزير الفرنسي بيرنارد كوشنير لم يملك منها مهرباً. في حمى الدعاوى القضائية ضد ستراوس كان، قررت الصحفية الجميلة تريستان بانون رفع دعوى قضائية ضد كان بمحاولة اغتصابها ثم تبين أنه كان قد حاول الحصول منها على قبلة فقط! في الصحف الغربية نقرأ يومياً ونرى صوراً فاضحة يلامس فيها الرجال المهمون النساء المهمات بشكل حميم فإذا توافق الطرفان في اللحظة ذاتها ظهر الأمر كسلوك متحضر ورقيق وإذا اختلفا عليه ولو بعد حين إدعى طرف أنه كان ضحية سلوك مسيء جنسياً. هذا حديث من كثرته ووفرة المعلومات عنه لا يطاق!
في اليوم الذي سلم فيه الرئيس جاك شيراك السلطة لخلفه، أجرت إحدى الإذاعات الغربية استطلاعاً للرأي في شوارع العاصمة تحدث فيه مواطنو باريس عن الرجل الذي ظلل بقامته المديدة حياتهم السياسية عمدة للندينة ورئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية لدورتين كاملتين وقد بهرتني سيدة قالت إنها ستفتقده “فقد كان فرنسياً حقيقياً يحب الطعام و(الشراب) والنساء”! خلفه ساركوزي لم يكن مستقراً في علاقاتاه الجنسية وقد طلق زوجته وهو في سدة الرئاسة وتزوج نجمة إيطالية ثم جاء خلفه دوفيلبان الذي كان لديه أطفال مع صديقته الزعيمة السياسية التي انفصل عنها وهكذا! ستراوس كان لم يكن مخالفاً لكن المؤسسة لم ترغب في رؤيته رئيساً! هذا كل ما في الأمر.
في الولايات المتحدة حيث ظلت عقيدة السلوك الجنسي الشهيرة تصاغ منذ سنوات، تجد وسائل الإعلام ضالتها في نبش غرف نوم المرشحين للوظائف العامة ولم يكن الرئيس ترامب وزوجته ثم موظفي إدارته بالترتيب هم آخر من يتم البحث في سلوكهم الجنسي ليتم اختيارهم لوظائف لا علاقة لها البتة بممارسة الجنس في المستقبل.
قبل عقود قصيرة كان التسامح سيد الموقف في الولايات المتحدة والغرب حيث كان التفاضل بين كبار الزعماء مؤسس على مشاركاتهم في الحرب العالمية أو نشاطهم في الحرب الباردة وهكذا تم التسامح مع شخصيات عامة ذات نفوذ كبير كان سلوكها الجنسي مثيراً للخزي أو للإشمئزاز. قبل عقود قليلة كان الإتهام بالشيوعية أو المثلية الجنسية أفدح من الإتهام بالتحرش الجنسي أو إقامة علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج، وللغرابة فإنه بعد عقود قليلة فقط صار التباهي بالمثلية الجنسية او التسامح معها وإحترامها عنواناً للسلوك المتحضر! الأمر كله مصنوع ومنذ عامين أو أكثر قليلاً تستأنس صناعة الترفيه والإعلام والسينما بسيرة هارفي ونستين المنتج السينمائي الهوليوودي الأكثر تأثيراً والأوسع شهرة. منذ السبعينات ظل وينستين هو نفسه المنتج السينمائي الثري والمستمتع بالملذات والغارق في المتعة الحسية لكن المؤسسة الغربية (The Establishment) قررت فجأة تقديم صيد ثمين قرباناً لعقيدتها الجديدة فقدمته عبر تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز في أكتوبر الماضي وكشفت فيه أن ونستين أساء خلال عقود معاملة النساء اللواتي عملن في أفلامه أو طمحن للعمل في السينما وإنه كان يستغلهن جنسياً.. هكذا خرجن زمراً للدفاع عن كرامتهن المهدرة وشرفهن المنتهك وفضيلتهن المدنسة قسراً بعد سنوات من الصمت! من الذي يدير هذا العالم؟ ليس سراً أن هناك هناك حكومة سرية تدير عالمنا هذا بكفاءة مهيبة وأدوات شديد القوة والتأثير والحسم. يا لمفاجآت العالم الغربي وقرابينه! لقد ظل هارفي ونستين لعقود طويلة نجم النساء ومعبودهن ونصيرهن وموفر الفرص لهن للعمل والنجومية وخدمة المجتمع ولم يتردد هو نفسه في مؤازرة أول سيدة أمريكية تترشح لرئاسة الولايات المتحدة وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون ولم يتردد في دعم حملتها الإنتخابية مالياً ومعنويا ومن بين أهم أنشطته في مساندتها إقامته لحفل خيري لجمع التبرعات لها في منزله بضاحية مانهاتن الراقية في عاصمة العالم نيويورك. ترى من الذي غضب على ونستين في الغرف الخلفية فأبعده بهذه الصرامة والقسوة؟
حياتنا في العالم العربي مضحكة ومثيرة للشفقة إذ ليست صوى لما يحدث في مكان آخر! لنشر الديانة الجديدة المسماة (التحرش الجنسي) يتم إنشاء الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني المحلية بوعود بالتمويل الجاهز لأنشطتها من الغرب ثم يبدأ الضجيج: التحرش التحرش التحرش! يتم صناعة الصنم بالحديث بان هذه مشكلة الجنس البشري الحالية! تختطف الناشطات (والناشطون) اللافتة ويحضرون الدورات التدريبية وورش العمل التي تعلمهم كيف يصنعون المشكلة، وكيف يطرحونها على وسائل الإعلام ومؤسسات تشكيل الرأي العام، ثم كيف يقترحون القوانين ويضغطون على المشرعين تبنيها وعلى التنفيذيين تطبيقها وعلى القضاء استعمال الحيل من أجل تنفيذها! هناك أربع دول عربية أقرت بالفعل قوانين لمكافحة التحرش الجنسي وهناك دولتان تناقشان إقراره على مستويات رفيعة ونحن في الطريق في السودان حين يصم آذان العالم صدى الصوت. في الدول العربية التي أقرت القوانين المستجلبة من الخارج يكفي أن تقول كلمة غزل واحدة لتجد نفسك تحت طائلة القانون في حين يستطيع أي رجل شرطة التحقق من عذرية فتاة في سياق آخر دون أن يحاسب على شيء!
الاحداث نيوز