
اختلال الموازين في المجتمع تصير معه الفوضى المقننة أمراً طبيعياً لا غرابة فيه، وتصير معه حوادث النهب والقتل والانحلال الاجتماعي شيئاً طبيعياً، خاصة إذا كانت في مجتمع عُرف حتى قريب وقت بالوداعة والأمانة واحترام الثوابت من تعاليم وشرائع دينية وقيم ومُثل وتقاليد وموروثات، وبالتالي من الطبيعي جداً أن نشاهد أجيالاً مهتزة ومشوهة نفسياً، مُصابة بعاهات عاطفية وإنسانية، طالما كان مسرح الأحداث هو دولة بات من الصعب التكهن باتجاه بوصلتها السياسية والاجتماعية والعدلية.
وددت بهذه المقدمة التعرض لأكثر من حادثة هزَّت الرأي العام مؤخراً، وهزتني شخصياً بتفاصيلها المؤلمة، فما حدث داخل قاعة محكمة جنايات أم درمان وسط أمس الأول في جلسة الاستماع لشهود الدفاع في قضية مقتل زوجة رجل الأعمال الشهير مهدي الشريف، فور استدعاء الطفل صاحب الـ(12) عاماً ابن المتهمة بقتل زوجة الشريف إلى القاعة لسماع شهادته، حيث انطلقت صرخة مدوية اهتزت لها جنبات القاعة أعقبها نداء من المتهمة لابنها (يا أحمد تعال سلم علي أنا ماما، أعقب ذلك هرولة الطفل ناحية أمه لتحتضنه وهي تصرخ وتردد: لو ما شهدت لي حيقتلوني).
سيناريو تراجيدي لم نشاهده في أشهر الأفلام العالمية، ولا يمكن لأي شخص طبيعي أن يرى هذا المنظر أو يسمع عنه ولا يهتز أو يتفاعل معه، المؤلم في القضية هو إحضار الطفل كشاهد في القضية أولاً، ورؤيته لوالدته في قفص الاتهام بمظهر لم يعتد رؤيته من قبل ثانياً، وبعد غياب عنها لأكثر من 9 أشهر هي فترة حبسها على ذمة القضية التي لم تنته فصولها بعد.
القضية ليست في اعتراف المتهمة بارتكابها الجريمة وتمثيلها على شريط فيديو بحوزة المحكمة، ثم تراجعها عن ذلك في محاولاتها المستميتة إثبات براءتها بعد ذلك بشتى السبل وبأي ثمن حتى ولو كان الثمن انتهاك طفولة ابنها وممارسة أبشع أنواع الابتزاز والعنف العاطفي تجاهه.
ما حدث في المحكمة يؤكد اختلال موازين الفطرة والأمومة، بسماح الأم حضور ابنها ووقوفه أمام العشرات وربما المئات، وفي مكان يفترض أن تكون أول الرافضين لوجوده فيه، وهو المحكمة، إلا أنها بموافقتها على إحضاره للوقوف في المحكمة، وتفضيلها براءتها وحبها للحياة وإنقاذ حياتها على مستقبل ابنها، أثبتت أنها لا تبالي بطفلها، لأنها بذلك التصرف جنت عليه وعرضته لهزة نفسية قد تلازمه وتؤثر تأثيراً سالباً عليه طيلة حياته، فلو كانت متأكدة من براءتها فعلاً لسعت جاهدة لمنع ذلك السيناريو من الحدوث، ولطالبت المحكمة عبر محامي الدفاع بأن تكون شهادته في (غرفة خاصة) كما يحدث في معظم دول العالم، بعيداً عن جو المحكمة الذي يخشاه ويتجنبه (أقوى الرجال)، وعدم رؤيتها بمنظر لم يعتده، فمراعاة شعوره كطفل وعدم زرع الخوف والرهبة في قلبه، منعاً لأي موقف يمكن أن يشكل له عقدة نفسية تلازمه مدى الحياة، هو تصرف طبيعي وفطري من أي أم تجاه ابنها مهما كان عمره، ناهيك من كونه طفلاً يافعاً غضَ القلب.
وفي اعتقادي ان القاضي نفسه كان من الممكن أن ينحو منحى يجنبه الفوضى التي حدثت في الجلسة، باتخاذه قرار أخذ شهادة الطفل بعيداً عن الأم المتهمة وعن الجمهور، وحتى لا يعلم الطفل أنه يدلي بشهادته، أمام جهة قضائية، وأمام والدته، فكلها مؤثرات محيطة بالطفل ربما أدت لعدم قوله الحقيقة وإخفائه معلومات ربما غيرت من سير القضية، فالمتهمة بالقتل هي والدته، والمجني عليها هي جدته، فماذا كان يتوقع أسوأ المتشائمين أن يحدث غير الذي حدث، طفل برئ، لم يُشاهد أمه لقرابة العام، ووضع في موقف لا يحسد عليه، أمه وأبيه (باعتباره ابن القتيلة).
شهادة الأطفال في المحاكم مأساة يدفع ثمنها أطفال أبرياء، لذا فلابد من إيجاد معالجات من الجهات المعنية بحقوق الطفل من مؤسسات ومنظمات رسمية ومنظمات مجتمه مدني وحقوقيون وإعلام.
لنا عودة…
الجريدة