
قبل عدة سنوات اتّصل بي مصدرٌ طبيٌّ وثيق الصلة بالوضع الطبي في ولاية حدودية، ونقل لي انتشار مرض في تلك الولاية.. وطلب نشر الخبر في الصحيفة.. اعتذرت وقلت له إنّ السياسة التحريرية لصحيفة “التيار” تلتزم بالتصريحات أو البيانات الرسمية من الناطقين الرسميين فقط في حالة الأمراض التي تمس الإنسان أو الحيوان أو النبات.. وذلك استشعاراً منّا أنّ مثل هذه الأخبار تندرج تحت عنوان (الأمن القومي) لما قد تحدثه من أضرارٍ بالغةٍ خَاصّةً في الاقتصاد.
حاولنا تطبيق هذه القاعدة في الأوضاع التي تتعرّض لها ولاية كسلا الآن.. وظللنا نطرق أبواب المَسؤولين في مُختلف المُستويات فرداً فرداً، غالباً لا يردون، وإن ردُّوا يُحيلون السؤال إلى آخرين، ويتولى الآخرون إكمال مسلسل التهرُّب من الإجابة بشتّى السُّبُل، مثلاً سنعاود الاتصال بكم.. وغير ذلك من فنون الاختباء.. ومع تفاقم الأخبار الواردة أصبح انتظار (الناطق الرسمي) جَريمة في حَدِّ ذاته.. طالما هو لا ينطق، بل وليس له عنوانٌ.!
طرأ في ذهني سؤالٌ منطقيٌّ، عندما نكتب وتنشر الصحيفة ما نكتب يفتح المسؤولون الحكوميون بلاغات ضدنا في نيابة الصحافة.. ويصدر (أمر قبض) تُنفِّذه النيابة لكن بصورة حضارية تُليق بطبيعة الجريمة كونها تختص بالنشر الورقي.. حسناً، أليس من العدل والإنصاف أن يصدر (أمر قبض) أيضاً في حالة الصمت الإجرامي.. أي عندما يتطلب الوضع الشفافية وتنوير الرأي العام بقضية يرتبط بها مصير حياة المُواطن.. أليس (عدم النشر) هنا جريمة تعادل تماماً جريمة (النشر)؟!!
فالمشرع عندما سن في القانون جرائم النشر قصد منها حماية المُجتمع من شُرُور النشر المُضر، فكيف إذا أصبح الشر والضرر في (عدم النشر) أليست هي أيضاً جريمة مُكتملة الأركان؟!!
أفهم وأتفهّم في سياق مبدأ الحُرية مُقابل المسؤولية أن نكون نحن مسؤولين عن كل كلمة ننشرها، لكن أليس من الإنصاف أن يكون المُوظّف الحكومي مسؤولاً عن كل كلمة (لا) ينطق بها، في وقتٍ يتطلّب الإبانة والإفصاح من أجل (الأمن القومي) لمُواطن قد يضطر تحت ضغط الجهل بالأمر أن يعمد إلى أفعالٍ مُضرةٍ بالوطن، مثلاً؛ أن يقرر الهروب من الولاية إلى منطقة أخرى لأنّه لا يدري بحقيقة الوضع، فالظلام دائماً مُخيفٌ، إن كان ظلاماً فعلياً أو ظلاماً مجازاً بسبب غياب المعلومات.
ولاية كاملة الدسم مثل كسلا، فيها والٍ وحكومة ومعتمدون وإدارات ومواكب من المُؤسّسات الرسمية، ومع هذا لا يظهر في سطح الأخبار رجلٌ أو امرأةٌ تحت مُسمّى وظيفي (ناطق رسمي) ليكون المصدر الرسمي الذي تعتمد روايته لدى كل وسائط الإعلام؟
لماذا لا تكون واحدة من أهم بنود (إدارة الكوارث) تسمية (الناطق الرسمي) الذي منه تُستقى المعلومات؟!!
مطلوب إصدار (أمر قبض) لعدم النشر.. حين يجب النشر!!
التيار
( أليس (عدم النشر) هنا جريمة تعادل تماماً جريمة (النشر)؟!!) تعريف الجريمة حسب القانون هي فعل او امتناع عن فعل يشكل جريمة …. اذن الامتناع عن الادلاء بتصريح وقت الحاجة يشكل جريمة تماما كالامتناع عن المساعدة الضرورية وقت الحوجة